فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ} كانوا إذا أُنذروا بالبعث وساعته استهزأوا فسألوا عن وقتها، وكان ذلك مما يتكرّر منهم، قال تعالى: {يسألونك عن السّاعة أيّان مُرساها لِّلْعَبِيدِ إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ الساعة وَمَا تَخْرُجُ مِن ثمرات مِّنْ أَكْمَامِهَا وَمَا} [الأعراف: 187] فلمّا جرى ذكر دليل إحياء الموتى وذكر إلحاد المشركين في دلالته بسؤالهم عنها استهزاء انتقل الكلام إلى حكاية سؤالهم تمهيدًا للجواب عن ظاهره وتقديم المجرور على متعلّقه لإفادة الحصر، أي إلى الله يفوض علم السّاعة لا إليّ، فهو قصر قلب.
وردّ عليهم بطريق الأسلوب الحكيم، أي الأجدر أن تعلموا أنْ لا يعلم أحد متى السّاعة وأن تؤمنوا بها وتستعدّوا لها.
ومثله قول النبي صلى الله عليه وسلم وسأله رجل من المسلمين: متى الساعة؟ فقال له: {ماذا أعددت لها} أي استعدادك لها أولى بالاعتناء من أن تسأل عن وقتها.
والرّد: الإرجاع وهو مستعمل لتفويض علم ذلك إلى الله والتبرؤ من أن يكون للمسؤول علم به، فكأنّه جيء بالسؤال إلى النّبيء صلى الله عليه وسلم فردّه إلى الله.
وفي حديث موسى مع الخضر في الصحيح «فعاتب الله موسى أن لم يَرُدّ العِلم إليه» وقال تعالى: {ولو رَدّوه إلى الرّسول} [النساء: 83] الآية.
وعطف جملة {وما تخرج من ثمرات من أكمامها} وما بعدها توجيه لصرف العلم بوقت السّاعة إلى الله بذكر نظائرِ لا يعلمها النّاس، وليس علم السّاعة بأقرب منها فإنّها أمور مشاهدة ولا يعلم تفصيل حالها إلاّ الله، أي فليس في عدم العلم بوقت السّاعة حجةٌ على تكذيب من أنذَر بها، لأنّهم قالوا: {متى هذا الوعد إن كنتم صادقين} [يس: 48]، أي إن لم تبيّن لنا وقته فلست بصادق.
فهذا وجه ذكر تلك النظائر، وهي ثلاثة أشياء:
أوّلها: علم ما تُخرجه أكمام النخيل من الثَمَر بقدره وجودتِه وثباته أو سقوطه، وضمير {أكمامها} راجع إلى الثمرات.
والأكمام: جمع كِمّ بكسر الكاف وتشديد الميم وهو وعاء الثّمر وهو الجُفّ الذي يخرج من النّخلة محتويًا على طلْع الثّمر.
ثانيها: حمل الأنثى من النّاس والحيوان، ولا يعلم التي تلقح من التي لا تلقح إلاّ الله.
ثالثها: وقت وضع الأجنّة فإن الإناث تكون حوامل مثقلة ولا يعلم وقت وضعها باليوم والسّاعة إلا الله.
وعُدل عن إعادة حرف {ما} مرة أخرى للتفادي من ذكر حرف واحد ثلاث مرّات لأنّ تساوي هذه المنفيات الثلاثة في علم الله تعالى وفي كون أزمان حصولها سواءً بالنسبة للحال وللاستقبال يسدّ علينا باب ادعاء الجمهور الفرق بين {ما} ولا في تخليص المضارع لزمان الحال مع حرف {ما} وتخليصه للاستقبال مع حرف لا.
ويؤيّد ردّ ابن مالك عليهم فإن الحق في جانب قول ابن مالك.
وحرف {من} بعد مدخولي {ما} في الموضعين لإفادة عموم النفي ويسمّى حرفًا زائِدًا.
والباء في {بعلمه} للملابسة.
وتقدم نظيره في سورة فاطر.
وقرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم {ثمرات} بالجمع.
وقرأه الباقون {ثمرةٍ} واحدةِ الثمرات.
{بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَآئِى قالوا ءَاذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَدْعُونَ مِن قَبْلُ وَظَنُّواْ مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ}.
عطف على الجملة قبلها فإنّه لما تضمن قوله: {إليه يرد علم الساعة} إبطال شبهتهم بأن عدم بيان وقتها يدلّ على انتفاء حصولها، وأتبع ذلك بنظائر لوقت السّاعة مما هو جار في الدّنيا دَوْمًا عاد الكلام إلى شأن السّاعة على وجه الإنذار مقتضيًا إثبات وقوع السّاعة بذكر بعض ما يلْقونه في يومها.
و{يوم} متعلّق بمحذوف شائععٍ حذفه في القرآن، تقديره: واذكر يوم يناديهم.
والضّمير في ينادي عائد إلى {ربّك} في قوله: {وما ربّك بظلام للعبيد} [فصلت: 46]، والنداء كناية عن الخطاب العلني كقوله: {ينادونهم ألم نكن معكم} [الحديد: 14].
وقد تقدم الكلام على النداء عند قوله تعالى: {ربّنا إننا سمِعنا مناديًا ينادي للإيمان} في آل عمران (193)، وقوله: {ونُودوا أن تلكُم الجنّة أورثتموها} في سورة الأعراف (43).
وجملة {أين شركائي} يصح أن يكون مقول قول محذوف كما صرّح به في آية أخرى {ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون} [القصص: 74] {ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين} [القصص: 65].
وحذف القول ليس بعزيز.
ويصحّ أن تكون مبيّنة لما تضمنه {يناديهم} من معنى الكلام المعْلن به.
وجاءت جملة {قالوا آذناك} غير معطوفة لأنّها جارية على طريقة حكاية المحاورات كما تقدّم عند قوله تعالى: {وإذ قال ربّك للملائكة} إلى قوله: {ما لا تعلمون} [البقرة: 30].
و{آذناك} أخبرناك وأعلمناك.
وأصل هذا الفعل مشتق من الاسم الجامد وهو الأذن بضم الهمزة وسكون الذال وقال تعالى: {فقل آذنتكم على سواء} [الأنبياء: 109]، وقال الحارث بن حلزة:
أذنَتْنَا بِبَيْنها أسماء

وصيغة الماضي في {آذناك} إنشاء فهو بمعنى الحال مثل: بعْتُ وطلقت، أي نأذنك ونُقر بأنّه ما منّا من شهيد.
والشهيد يجوز أن يكون بمعنى المشاهد، أي المبصر، أي ما أحد منا يَرى الذين كنّا ندعوهم شركاءك الآن، أي لا نرى واحدًا من الأصنام التي كنّا نعبدها فتكون جملة {وضلّ عنهم ما كانوا يدعون} في موضع الحال، والواو واو الحال.
ويجوز أن يكون الشهيد بمعنى الشاهد، أي ما منّا أحد يشهد أنّهم شركاؤك، فيكون ذلك اعترافًا بكذبهم فيما مضى، وتكون جملة {وضل عنهم} معطوفة على جملة {قالوا آذناك}، أي قالوا ذلك ولم يجدوا واحدًا من أصنامهم.
وفعل {آذناك} معلّق عن العمل لورود النفي بعده.
و{ضلّ}: حقيقته غاب عنهم، أي لم يجدوا ما كانوا يدعونهم من قبل في الدّنيا، قال تعالى: {بل ضلُّوا عنهم} [الأحقاف: 28].
فالمراد به هنا: غيبة أصنامهم عنهم وعدم وجودها في تلك الحضرة بقطع النّظر عن كونها ملقاة في جهنّم أو بقيت في العالم الدنيوي حين فنائه.
وإذ لم يجدوا ما كانوا يزعمونه فقد علموا أنّهم لا محيص لهم، أي لا ملجأ لهم من العذاب الذي شاهدوا إعداده، فالظّنّ هنا بمعنى اليقين.
والمحيصُ مصدر ميمي أو اسم مكان من: حاص يَحيصُ، إذا هرب، أي ما لهم مفر من النّار.
{لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49)} اعتراض بين أجزاء الوعيد.
والمعنى: وعلموا ما لهم من محيص.
وقد كانوا إذا أصابتهم نعماء كذّبوا بقيام السّاعة فجملة {لا يسأم الإنسان من دعاء الخير} إلى قوله: {قنوط} تمهيد لجملة {ولئن أذقناه رحمةً منا}. إلخ.
وموقع هذه الآيات عقب قوله: {ويوم يناديهم أين شركائي قالوا آذناك} [فصلت: 47] إلخ يقتضي مناسبة في النّظم داعية إلى هذا الاعتراض فتلك قاضية بأنّ الإنسان المخبر عنه بأنّه لا يسأمُ من دعاء الخير وما عطف عليه هو من صنف النّاس الذين جرى ذِكر قصصهم قبل هذه الآية وهم المشركون، فإمّا أن يكون المراد فريقًا من نوع الإنسان، فيكون تعريف {الإنسان} تعريف الجنس العام لكن عمومه عرفي بالقرينة وهو الممَثل له في علم المعاني بقولكَ: جمع الأمير الصاغة.
وإمّا أن يكون المراد إنسانًا معينًا من هذا الصنف فيكون التعريف تعريف العهد.
كما أن الإخبار عن الإنسان بأنّه يقول: ما أظنّ الساعة قائمة، صريح أن المخبر عنه من المشركين معينًا كان أو عامًا عمومًا عرفيًا.
فقيل المراد بالإنسان: المشركون كلّهم، وقيل أريد به مشرك معين، قيل هو الوليد بن المغيرة، وقيل عتبة بن ربيعة.
وأيًّا مَّا كان فالإخبار عن إنسان كافر.
ومحمل الكلام البليغ يرشد إلى أنَّ إناطة هذه الأخبار بصنف من المشركين أو بمشرك معين بعنوان إنسان يومىء بأنّ للجبلة الإنسانية أثرًا قويًا في الخُلُق الذي منه هذه العقيدة إلا من عصمه الله بوازع الإيمان.
فأصل هذا الخُلق أمر مرتكز في نفس الإنسان، وهو التوجه إلى طلب الملائم والنافع ونسيان ما عسى أن يحل به من المؤلم والضار، فبذلك يأنس بالخير إذا حصل له فيزداد من السعي لتحصيله ويحسبه كالملازم الذاتي فلا يتدبر في مُعطيه حتى يشكره ويسأله المزيد تخضعًا، وينسى ما عسى أن يطرأ عليه من الضرّ فلا يستعد لدفعه عن نفسه بسؤال الفاعل المختار أن يدفعه عنه ويعيذه منه.
فأما أنّ الإنسان لا يسأم من دعاء الخير فمعناه: أنّه لا يكتفي، فأطلق على الاكتفاء والاقتناع السآمة، وهي الملَل على وجه الاستعارة بتشبيه استرسال الإنسان في طلب الخير على الدوام بالعمل الدائم الذي شأنه أن يسأم منه عامله فنفيُ السآمة عنه رمزٌ للاستعارة.
وفي الحديث: «لوْ أن لابن آدم واديين من ذهب لأحبّ لهما ثالثًا، ولو أن له ثلاثة لأحبّ لهما رابعًا، ولا يملأ عين ابن آدم إلاّ التراب» وقال تعالى: {وإنّه لِحُبّ الخير لشديد} [العاديات: 8].
والدعاء: أصله الطلب بالقول، وهو هنا مجاز في الطلب مطلقًا فتكون إضافته إلى الخير من إضافة المصدر إلى ما في معنى المفعول، أي الدعاء بالخير أو طلب الخير.
ويجوز أن يكون الدعاء استعارة مكنية، شبه الخير بعاقل يسأله الإنسان أن يُقبِل عليه، فإضافة الدعاء من إضافة المصدر إلى مفعوله.
وأما أن الإنسان يؤوس قنوط إن مسه الشر فذلك من خُلق قلة صبر الإنسان على ما يتعبه ويَشق عليه فيضجر إن لحقه شرّ ولا يوازي بين ما كان فيه من خير فيقول: لئن مسني الشرّ زمنًا لقد حلّ بي الخير أزمانًا، فمن الحق أن أتحمل ما أصابني كما نعمت بما كان لي من خير، ثم لا ينتظر إلى حين انفراج الشرّ عنه وينسى الإقبال على سؤال الله أن يكشف عنه الضر بل ييأس ويقنط غضبًا وكبرًا ولا ينتظر معاودة الخير ظاهرًا عليه أثرُ اليأس بانكسار وحزن.
واليأس فعل قلبي هو: اعتقاد عدم حصوله الميؤوس منه.
والقُنوط: انفعال يدني من أثَر اليأس وهو انكسار وتضاؤل.
ولم يذكر هنا أنّه ذو دعاء لله كما ذكر في قوله الآتي: {وإذا مسه الشرُّ فذو دعاء عريض} [فصلت: 51].
لأنّ المقصود أهل الشرك وهم إنّما ينصرفون إلى أصنامهم.
وقد جاءت تربية الشريعة للأمّة على ذم القنوط، قال تعالى حكاية عن إبراهيم {قال ومن يَقنَط من رحمة ربّه إلاّ الضَّالون} [الحجر: 56]، وفي الحديث «انتظار الفرج بعد الشدّة عبادة».
فالآية وصفت خُلقين ذميمين: أحدهما خلق البطر بالنعمة والغفلة عن شكر الله عليها.
وثانيهما اليأس من رجوع النعمة عند فقدها.
وفي نظم الآية لطائف من البلاغة:
الأولى: التعبير عن دوام طلب النّعمة بعَدم السآمة كما علمْتَه.
الثانية: التعبير عن محبّة الخير بدُعاء الخير.
الثالثة: التعبير عن إضافة الضر بالمسّ الذي هو أضعف إحساس الإصابة قال تعالى: {لا يَمَسُّهم السوء} [الزمر: 61].
الرّابعة: اقتران شرط مسّ الشر ب {إنْ} التي من شأنها أن تدخل على النادر وقوعُه فإن إصابة الشر الإنسانَ نادرة بالنسبة لما هو مغمور به من النعم.
الخامسة: صيغة المبالغة في {يَؤُوس}.
السّادسة: إتْباع {يؤوس} ب {قنوط} الذي هو تجاوز إحساس اليأس إلى ظاهر البدن بالانكسار، وهو من شدّة يَأسه، فحصلت مبالغتان في التّعبير عن يأسه بأنّه اعتقاد في ضميره وانفعال في سحناته.
فالمشرك يتأصّل فيه هذا الخُلق ويتزايد باستمرار الزّمان.
والمؤمن لا تزال تربية الإيمان تكفه عن هذا الخلق حتى يزول منه أو يكاد.
ثم بينت الآية خلقًا آخر في الإنسان وهو أنّه إذا زال عنه كربه وعادت إليه النّعمة نسي ما كان فيه من الشّدة ولم يتفكر في لطف الله به فبطر النّعمةَ، وقال: قد استرجعت خيراتي بحيلتي وتدبيري، وهذا الخير حق لي حصلت عليه، ثمّ إذا كان من أهل الشرك وهم المتحدث عنهم تراه إذا سمع إنذار النبي صلى الله عليه وسلم بقيام الساعة أو هجس في نفسه هاجس عاقبة هذه الحياة قال لمن يدعوه إلى العمل ليوم الحساب أو قال في نفسه {ما أظنّ السّاعة قائمة} ولئن فَرَضت قِيام السّاعة على احتمال ضعيف فإنّي سأجد عند الله المعاملة بالحسنى لأنّي من أهل الثراء والرفاهية في الدّنيا فكذلك سأكون يوم القيامة.
وهذا من سوء اعتقادهم أن يحسبوا أحوال الدّنيا مقارنة لهم في الآخرة، كما حكى الله تعالى عن العاصي بن وائل حين اقتضاه خبَّاب بن الأرتِّ مالًا له عنده من أجر صناعةِ سيف فقال له: حتى تكفر بمحمد؟ فقال خبَّاب: لا أكفر بمحمد حتى يميتك الله ويبعثك، فقال: أوَ إنِّي لميّت فمبعوث؟ قال: نعم.
فقال: لئن بعثني الله فسيكون لي مالي فأقضيك، فأنزل الله تعالى: {أفرَأيت الذي كفَر بآياتنا وقال لأوتيَنَّ مالًا وولدًا} الآيات من سورة مريم (77).
ولَعَل قوله: {ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى} إنّما هو على سبيل الاستهزاء كما في مقالة العاصي بن وائل.
وذِكر إنكار البعث هنا إدماج بذكر أحوال الإنسان المشرك في عموم أحوال الإنسان.
وجيء في حكاية قوله: {ولئن رجعت} بحرف إنْ الشرطية التي يَغلب وقوعها في الشرط المشكوك وقوعه لأنّه جعل رجوعه إلى الله أمرًا مفروضًا ضعيف الاحتمال.
وأما دخول اللام الموطئة للقسم عليه فمورد التحقيق بالقسم هو حصول الجواب لو حصل الشرط.
وكذلك التأكيد ب {إن} ولام الابتداء مورده هو جواب الشرط، وكذلك تقديم {لي} و{عنده} على اسم {إنَّ} هو لتقوّي ترتب الجواب على الشرط.
والحسنى: صفة لموصوف محذوف، أي الحالة الحسنى، أو المعاملة الحسنى.
والأظهر أن الحسنى صارت اسمًا للإحسان الكثير أخذًا من صيغة التفضيل.
واعلم أن الإنسان متفاوتة أفراده في هذا الخُلق المعزوّ إليه هنا على تفاوت أفراده في الغرور، ولما كان أكثر النّاس يومئذٍ المشركين كان هذا الخلق فاشيًا فيهم يقتضيه دين الشرك.
ولا نظر في الآية لمن كان يومئذٍ من المسلمين لأنهم النادر، على أن المسلم قد يخامره بعض هذا الخلق وترتسم فيه شِيَات منه ولكن إيمانه يصرفه عنه انصرافًا بقدر قوة إيمانه، ومعلوم أنّه لا يبلغ به إلى الحد الذي يقول {وما أظنّ الساعة قائمة}، ولكنه قد تجري أعمال بعض المسلمين على صورة أعمال من لا يظنّ أن الساعة قائمة مثل أولئك الذّين يأتون السيئات ثم يقولون: إن الله غفور رحِيم، والله غني عن عذابنا، وإذا ذكر لهم يوم الجزاء قالوا: ما ثَمّ إلا الخير ونحو ذلك، فجعل الله في هذه الآية مذمّة للمشركين وموعظة للمؤمنين كمَدًا للأوّلين وانتشالًا للآخرين.
{للحسنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الذين كَفَرُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنْ عَذَابٍ}.
تفريع على جملة {ويوم يناديهم أين شركائي} [فصلت: 47] وما اتصل بها أي فلنعلمنّهم بما عَمِلوا عَلنًا يعلَمُون به أنّا لا يخفى علينا شيء مما عملوه وتقريعًا لهم.
وقول: {الذين كفروا} إظهار في مقام الإضمار، ومقتضى الظّاهر أن يقال: ولننبئنّهم بما عملوا، فعدل إلى الموصول وصلته لما تؤذن به الصلة من علة استحقاقهم الإذاقة بما عملوا وإذاقة العذاب.
وقوله: {ولنذيقنهم من عذاب غليظ} هو المقصود من التفريع.
والغليظ حقيقته: الصلب، قال تعالى: {فاستغلظ فاستوى على سوقه} [الفتح: 29]، وهو هنا مستعار للقويّ في نوعه، أي عذاب شديد الإيلام والتعذيب، كما استعير للقساوة في المعاملة في قوله: {واغلظ عليهم} [التوبة: 73] وقوله: {وليجدوا فيكم غلظة} [التوبة: 123].
والإذاقة: مجاز في مطلق الإصابة في الحسّ لإطماعهم أنّها إصابة خفيفة كإصابة الذوق باللّسان.
وهذا تجريد للمجاز كما أن وصفه بالغليظ تجريد ثان فحصل من ذلك ابتداء مُطمِع وانتهاء مُؤيِس. اهـ.